السبت، 11 أغسطس 2012

الأدب الرقمي: ذاكرة اللعب بالنص. اللعب بالمصطلح


اتصل تطورُ الشعر العربي أو ظهور أشكال إبداعية غير مسبوقة باللعب في شكل النص، بوصف كلمة "اللعب" مرادفة لكلمة "التجريب"، وصحب ذلك إطلاق المصطلحات ذات العلاقة، ابتداءً من القصيدة العمودية، ومرورًا بالموشحات الأندلسية، وانتهاءً بالأدب الرقمي. ولأن اللعب بالنص يرتبط بالإبداع بوصفه ظاهرة إنسانية حيوية، ويرتبط بانعكاس مكونات التطور الحضاري ـ التي أهمها الكتابة ـ على الأدب شكلاً ولغةً، فإننا سنتاول ذاكرة اللعب بالنص في الشرق والغرب معًا، وما ترتب على ذلك من اضطراب بيِّن في طرح المصطلحات، وضبط معانيها.
الشعر العمودي
يتألف بيت الشعر الواحد من شطرين متساويين في عدد التفعيلات وقافية، وتفصل بين الشطرين في " الشفوية " مسافة قصيرة يلتقط خلالها الشاعر أو ملقي الشعر أنفاسه؛ حتى يستكمل الشطر الثاني، من ناحية أولى، يُعطي للمتلقي فرصة من الزمن؛ لإدراك جماليات النص، وإعطاء النص نفسه مزيدًا من الحضور الطاغي عبر الترصيع والتجنيس والتوازي وغير ذلك من الزخرفات. وهذا الفاصل بين الشطرين في " الكتابية " هو المساحة الخالية من الكلمات، أو بصياغة رقمية: إن الشطر الأول المكتوب هو (02)، وكذلك الشطر الثاني، أما مساحة البياض الفاصلة بينهما، فهي الزائف (00) ، وهذا يعني أن الفراغ والكتابة اللذين وجدنا ملامحهما في البيت الشعري كان لهما حضور في أقدم أشكال الشعر، وهو نظام الشطرين، وأنهما سيكونان، فيما بعد، مدار اللعب بالنص عبر مراحل تاريخية متتالية، شهدت تطورًا ملحوظًا في الشعر العربي.
وتطلبت "الشفوية" المتمازجة مع "الكتابية" في سياق الغناء خلخلة نظام الشطرين في الموشحات الأندلسية؛ فالموشح غالبًا ما يتألف من ثلاثة أقسام: دورين مختلفي اللحن، وخانة تصل بالمستمع إلى مستوى القمة في اللحن، وهذا ما تطلب إحداث تغيير كبير في الكتابة والبياض؛ للتحرر من رتابة اللحن، وتحقيق أقصى مستوى من التنويع اللحني. وفي هذا السياق أيضًا، جرى توظيف الكلمة والفراغ في لوحات معجزة، عند الشاعر الأندلسي عبد المنعم بن عمر بن حسان الغساني الجلياني (ت603 هـ) الذي قيل عنه: "أطلق الله سبحانه وتعالى على لسانه من جوامع الكلم من منظوم ومُطلق أصنافًا وفنونًا، فأبرز من برائع البلاغة نُخبًا وعيونًا كل صنف منها في ديوان"(1)، بلغت العشرة، ومنها ديوان "التدبيج" حيث نجد القصائد تزدان بأصباغ مختلفة، وزخارف هندسية رائعة، وتتخذ كلماتها شكل شجرة، أو سجادة، أو فراشة، وغير ذلك(2)، وهو ما يؤكد أن الكتابة البصرية عند العرب لم تكن نتاج فقر في الخيال والعاطفة، وضعف في الطاقة الإبداعية، بل نتاج عبقرية خلاقة، هذا من ناحية أولى، وأن هذا الشعر الذي يغلب عليه طابع المدح كان يُلقى شفويًّـا، ولم تحل الكتابة البصرية دون الإبقاء على تفعيل الشفوية، هذا من ناحية أخرى.
الشعر البصري
حينما بدأت "الكتابية" تفرض نفسها على " الشفوية " بقوة، نشأت في سياق "الأرابيسك" عند شعراء العصور المتتابعة ـ التي توصف ظلمًا بأنها عصور الانحطاط ـ الزخرفة على الجدران والخشب، والتنميق في الخط العربي، فحدثت أكبر خلخلة في الشعر، بصورةٍ جعلت اللعب بالكلمة ضربًـا من العبقرية الإبداعية؛ إذا ظهرت المشجرات والمخلعات والشعر الهندسي. وتبع هذا اللعب بالكلمة لعبًا بالمصطلحات، أيضًا؛ فهذا النمط من الشعر يتخذ تسميات مختلفة، منها: الشعر المرسوم، والشعر البصري، والشعر التشكيلي، على الرغم من كون تسمية "الشعر البصري" أكثر عمومية؛ إذ تمثل الجامع لكل ما أُنتج بصريًّـا، وتندرج تحته أنماط مختلفة. لقد أسهمت الكتابية في ظهور هذه الأشكال، والسياقات الحياتية التي تشكلت فيها، إضافة إلى اقتناع الشاعر بأن الكلمة لم تعد قادرة على الوقوف وحدها في حمل المعنى، بل إنها بحاجة إلى أن تتشكل في صورة أو ما يقترب منها كالشكل الهندسي. ولكن وجود نسبة أكبر من المتلقين ما زالت تعتد بالشفوية، وأهمها النقاد، جعل الالتفات إلى هذه التجارب بقصد تقريبها من الجمهور باهتًا، وخاصة أن أهم ما يُوجه من انتقاد للتجارب الجديدة نابع من المقارنة مع قصائد الشعراء الفحول الراسخة. وربما تفسر هذه الأمور توقف تلك التجارب.
إن غياب تسمية قديمة جامعة للأشكال السابقة، يعني أن الناقد العربي القديم لم يُرد أن يتورط في اللعب بالمصطلحات لأشكال شعرية غير مستقرة، وهذا ما يجعل المصطلحات المعاصرة التي طُرحت قبل قليل خاضعة للنقاش؛ فتسمية "الشعر المرسوم" تُخرِج المخلعات من التعريف، وتسمية "الشعر التشكيلي" تختلط بمعنى "الفن التشكيلي" الحديث، وتستدعي مدارسه وفلسفاتها. أما تسمية "الشعر البصري" فهي الأكثر دقة؛ لأن عملية التلقي قائمة على تفعيل حاسة البصر إلى أقصى حدودها، وفي الوقت نفسه، انفتاح الكلمة المكتوبة في تشكلاتها المختلفة على الفنون الأخرى.
وكانت الإحيائية عند الشاعر محمود سامي البارودي (1839 ـ 1904)، محرضًا للشعراء بعده على اللعب بالنص؛ لتحطيم نظام الشطرين في زمن الكتابة، فتجلى الشعر المقطعي عند خليل مطران (1872 ـ 1949)، ثم بلغ اللعب بالنص ذروته في قصيدتي "الكوليرا" لنازك الملائكة، و"هل كان حبًّـا؟" لبدر شاكر السياب عام 1947؛ إذ للشاعر أن يضع عددًا غير محدود من التفعيلات في الشطر الواحد، وله أن يتحرر من نظام القافية. وهذا يعني أن الفراغ والكتابة صارا مجالاً حيويًّـا للعب الشاعر. وقد تبع هذا اللعب عند الشاعر بالنص، لعبٌ آخر عند الناقد بالمصطلح، على الرغم من استقرار تسمية "الشعر الحر" في الخمسينيات؛ فقد أطلق عليه: الشعر المرسل، وشعر التفعيلة، والشعر الحديث، والشعر الجديد، والشعر المنطلق، والشعر المغصَّن.
لقد اكتشف الشاعر المعاصر أن اللعب بالكلمة في النص لم تعد كافية في الشعر الحر وفق ما سبق، ولا حتى وفق بعثرة الكلمات والحروف؛ إذ لا بد من الاستغلال الخلاق للكلمة والفراغ والرسم المبسَّط لصورة معينة، مستعيدًا بذلك مجد "المدبجات"، ومجد "الأرابيسك" على الرغم من غياب الأصوات النقدية التي تقرب هذا الشعر من القارئ، وهذا ما فعله شعراء كثيرون، منهم: كمال أبوديب، ومحمد بنيس(3).
الشعر البصري السمعي
أدى طغيان الكتابية على الشفوية إلى البحث عن أشكال شعرية تتجاوز الشعر المسموع، وهو الشعر الذي يُلقى دون إحداث تغيير في معنى النص الأصلي الموجود على الورق مهما بلغت براعة الإلقاء. وجاء هذا التجاوز متمثلاً بالشعر البصري السمعي حيث يتم تفعيل حاستي البصر والسمع معًا، ويحمل الصوت فيه معنى أساسيًّـا من حيث الظهور أو الغياب، ومن حيث العلو أو الانخفاض، ومن حيث البطء أو السرعة. ومن ذلك قصيدة للشاعر جي صك يو Ge-Suc Yeo عنوانها (Gang Gang)، وهو مستوحى من أصوات الطيور، ولكن لعب الشاعر بالنص امتد إلى اللعب بالمصطلح، أيضًا؛ فجعل القصيدة مُدرجة تحت مسمى "القصيدة الصوتية"، وإن كان قد وصفها بـ" الأداء الصوتي البصري" Audiovisual performance(4) على الرغم من كون المتابعة البصرية لحركة الطيور ـ التي تبدأ بواحد ثم تتكاثر أعدادها إلى أن تنتهي بواحد، أيضًا، يمثل نقطة البدء ـ ضرورية للقبض على المعنى، وأي إغفال لها يترتب عليه خسارة لجزء منه.
الشعر المادي
تُستخدم في اللغة العربية صياغات متعددة دالة على المصطلح الإنجليزي Concrete Poetry، منها تلك التي تُنقل إلى العربية بلفظها  "الشعر الكونكريتي"، أو تُترجم إلى تسميات مختلفة، منها: الشعر الملموس، والشعر المجسَّد، والشعر المجسَّم. وتستخدم في اللغة الإنجليزية تسميات تختلط بها، بصرف النظر عن ترجمتها إلى العربية، ومنها: Shaped Poetry، وPattern Poetry، وHaptic Poetry. هذه التسميات، في الشرق والغرب، تدل على أن اللعب بالنص صحبه اللعب بالمصطلحات على حد سواء. ومن أشهر القصائد على هذا النمط: (The Church: Easter Wings) للشاعر جورج هيربرت (1593 ـ 1633)، تتشكل فيها الكلمات بصورة زوج من الأجنحة، وقصيدة (Swan and Shadow) للشاعر جون هولاند (1929 ـ 2013) التي تمثل بجعة تنعكس صورتها في الماء.
إلى أين تمضي بنا عناصر اللعب؟
يبدأ اللعب بالنص في الأدب البصري بما يصنعه أو يكتبه المبدع نفسه؛ فالكاتب مارك سابورتا Marc Saporta، على سبيل المثال، قد طلب في منتصف الستينيات من القرن العشرين من القراء خلط صفحات روايته (Composition No 1) التي تتألف من 150 صفحة خالية من الترقيم، كما يحدث في أوراق اللعب، وجرى التنبيه على هؤلاء القراء بأن ما سيحصل عليه من ترتيب هو الذي يحدد مصير الشخصيات في الرواية، وكأنه بهذا الفعل، كان يفكر بالطريقة نفسها عند تيد نيلسون Ted Nelson الذي تجلى النص المتشعب Hypertext على يديه في السنة نفسها(5)، واستغل إمكاناته مايكل جويس Michael Joyce في إنتاج أول رواية رقمية (Afternoon, a story). واستطاع الشاعر روبرت كيندال Robert Kendall أن يستغل اللعب في إنتاج قصائده إلى أقصى الدرجات؛ فبالإضافة إلى إستراتيجيات إطلاق الرصاص بوصفه لعبةً، على سبيل المثال، في قصيدة (Clues)، يوظف الموسيقى والجرافيك، ويجعل النقر على (The Game) هو نقطة البدء، مسبوقًا بقوله: "لعب الكلمات. صدع النص. الفوز في اللعبة"(6)؛ فهو يضع المتلقي في سياق اللعب منذ البداية، ويجعله يلعب في النص للقبض على المعنى، أو بصياغة أخرى: للفوز بهذه اللعبة التي قرر الانخرط فيها.
ونجد عملية الكتابة نفسها، أو النص المعتمد على " النص المتشعب "، هو نتاج لعبة إلكترونية عند محمد اشويكه حيث يقول: "كلما فتحت حاسوبي الصغير، ونقرت على الأزرار، انسابت الكلمات، وتوالدت الفقرات، فتتحول الكتابة إلى لعبة زريَّة، تمامًا كما نتسلى بأية لعبة إلكترونية"(7). ولعل اللعب من أهم طرفين: النص، والمنشئ، دفع إلى اللعب بتلقي النص، بوصف هذا اللعب نمطًا من الحرية، بل دفع أحد المتلقين إلى الخلط مابين اللعبة التفاعلية Interactive game، والقصة التفاعلية Interactive story(8)، وكأن الخصائص المميزة لهما، والمصطلحات الدالة عليهما باتت على درجة كبيرة من الضبابية بحيث يصعب التنبؤ بحركة عناصر اللعب في المستقبل.
الهوامش
(1)     خليفة، حاجي: كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، تحقيق: محمد شرف الدين يالتقايا، ورفعت بيلكه الكليسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د. ت، 1/800.
(2)         انظر: ديوان التدبيج، تحقيق: كمال أبو ديب ودلال بخش، دار الساقي ودار أوركس، بيروت 2009.
(3)         للتفاصيل: الصفراني، محمد: التشكيل البصري في الشعر العربي الحديث، النادي الأدبي ـ الرياض، المركز الثقافي العربي ـ الدار البيضاء ـ بيروت 2008.
(4)         انظر القصيدة في اليوتيوب:
(http://www.youtube.com/watch?v=DUSAmgoYooQ)، 16 أكتوبر 2014.
(5)         انظر: عمري، إبراهيم: الأدب الرقمي في المغرب: بداية تسلل القارئ إلى كواليس الكتابة، مجلة الملتقى، ع29، مراكش، شتاء 2013، ص108 ـ 109.
(6)         انظر: Kendall، Robert: Clues:
          (http://www.wordcircuits.com/clues)، 17 أكتوبر 2014.
(7)         أنتج محمد اشويكة مجموعتين قصصيتين تعتمدان على الترابط النصي، هما: محطات، واحتمالات.
(8)         انظر: المهيري، عبد الله: الأدب التفاعلي في ألعاب الفيديو:
          (http://world1-2.net/2013/02/17/interactive-lit-in-videogames)، 20 فبراير 2013.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة الإمارات الثقافية، العدد 31، أبوظبي، مارس 2015.