الجمعة، 24 يوليو 2015

حوار مع القاصة جميلة عمايرة

القاصة جميلة عمايرة
تقديم
الكاتبة جميلة توفيق عمايرة: ولدت في زي بمدينة السلط عام 1964، وقد حصلت على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة فيلادلفيا عام 2004. عملت في قسم المطبوعات والنشر بوزارة التربية والتعليم، وفي مكتبة أمانة عمان الكبرى. صدرت لها مجموعات قصصية، منها: صرخة البياض عام 1993، وسيدة الخريف عام 1999، والدرجات عام 2004، ودم بارد عام 2006، وامرأة اللوحة عام 2013.
في تفاصيل الحياة

* مَنْ هي جميلة عمايرة، كما يطيب لها أن تعرف بنفسها للقارئ؟
** يبدو السؤال بسيطًا للوهلة الأولى ولكن من الصعوبة بمكان ـ بالنسبة لي ـ  التقـاط الإجابـة التي أعنيهـا تمامًا، وكل ما أعرفه أستطيع الإجابة عنه أنني ما أزال  أبحث عني.. عن الذات في رحلة مضنية أشبه بحلم قصير وهي تشتبك مع هذا العالم، وليس هناك سوى طريقة وحيدة أراها، وهي البحث في الكلمات والكتابة، لعلِّي  ألتقي بي ذات كتابة.
السلط، وتحديدًا "زَي"، ما مدى إسهامها في تغذية ينابيع الإبداع لديك؟
** إنني لا أشكُّ  أبدًا بالتأثير الكبير للمكان الأول في تشكيل الوعي وصقله وكيفية التلقي والإحساس بالمكان، بكل تفاصيلة الباذخة الثراء.. من طبيعة جبيلة ساحرة وسهول خضراء ما تزال تأسرني حتى اللحظة. "زي" التي بدونها يبدو توازني هشًا، إنها مسقط رأسي، وتفتُّح ذاكرتي.. وفيها ناسي.. وأبي الذي يرقد وسط غاباتها.
لماذا اتجهتِ في مرحلة ما من حياتك، إلى الدراسة الجامعية للأدب الإنجليزي، وليس للأدب العربي ذي العلاقة الوثيقة بكتابتك؟
** لا أعرف على وجة التحديد السبب الرئيس لدراستي للأدب الإنجليزي، ربما بسبب "سلفيا بلاث " وحبي الكبير لها، وتأثري بطريقة موتها المأساوية، أقول ربما، ومن  وجهة نظري، لا أتخيل أن تكون كاتبًا دون أنْ تجيد لغةً أخرى، أو ليس لديك اهتمام بآداب الأمم والشعوب، سواء أكان هذا الاطلاع مباشرًا أم غير مباشر. ثم إنني أجيد اللغة العربية وعلومها: قديمها وحديثها، وكنت من المتفوقات فيها بالمدرسة.
هل معنى هذا: أن ثقافتك التخصصية في الأدب الإنجليزي، قد شكَّلت تحولاً معينًـا في مجرى الكتابة؟
* * أظنها لم تشكِّل تحولاً كبيرًا في عملية الكتابة لديَّ، بقدر ما شكَّلت طريقة وعي أخرى مغايرة بالكتابة الإبداعية، واطلاع مباشر على أساليب كتابية، وقراءة ودراسة أعمال لكتاب وروائيين عالميين أثروا اللغة والكتابة، وما تزال إبداعاتهم ماثلة.. أنت تذهب إلى البحر وتأخذ معك أدوات السباحة، ولا تذهب وحقيبتك فارغة. بمعنى  أنني ذهبت إلى الجامعة، وكنت قد أصدرت مجموعتين قصصيتين، طُبعت الأولى أكثر من مرة، ونفدت المجموعة الثانية من الأسواق.. لكنها وبالتأكيد منحتني غنىً وثراءً ومغايرة.
كيف تعيشين خارج نطاق الوظيفة أو العمل الرسمي؟
* * لطالما اعتدتُ أن أكون نفسي في كل مكان أتواجد فيه، لكن حين أنهي عملي وأعود لبيتي، أكون أنسانةً أخرى وكما يطيب لي، بمعنى: أجدني ثانية، وألتقي بي من جديد.
إجابتكِ السابقة، تقودنا إلى طرح السؤال الآتي: ما مدى حضور هموم الناس، من خلال الاحتكاك المباشر بهم، في قصصك؟
* * لا يستطيع الكاتبُ الكتابةَ دون الآخرين، أنتَ لا تكتب من فراغ وللفراغ، والذات الفاعلة والمنفعلة بذاتها وبالآخرين وبالبيئة والعالم من حولها، تحاول جاهدة  أن تكتب ما تحسه عميقًا، ويلامس الكثيرين في هذا العالم مثلما يلامس روحي.

في التجربة القصصية

* رفضتِ، في أكثر من حوار إعلامي، تسمية "الأدب النسوي"، ما المسوِّغات التي دفعتكِ إلى هذا الرفض؟
** التسيلمُ بهذا المفهوم على إطلاقه يضَعُ ألغامًا في طريق القارئ ـ المتلقي. وهو كمن يضع إشارة مرورية تحذيرية، ولهذا أجدُني ضد التراتبية والتقسيم الجنسوي؛ فالأدب، في نهاية المطاف، حالةٌ إنسانية منفصلة تعبر عمَّا يجول داخل الذات، وبالتالي لا تخضع لمعايير جنسوية. وهذا لايعني ألاَّ تُظهر الذاتُ الكتابةَ سواءً كانت من صُنع رجل أو امرأة، وألاَّ تبرز خصوصية الكتابة؛ فالذات تكتب ما تشعرُ وتحسُّ به، دون الخضوع لمعايير وأحكام مسبقة سنَّها النقد والتأريخ.
* ورفضتِ، في أكثر من حوار إعلامي، أيضًـا، وجود الرقيب الخارجي على كتاباتك، وكذلك وجود الرقيب الداخلي عليها. كيف تحركين شخصياتك وفق هذه الحرية المطلقة للذات الإبداعية؟
** أكتب دون الاختباء خلف أنوثتي، ومن دون الوقوع تحت سطوة الذكر، وبلا خجل أو خوف، أيضًا، لا لشيء سوى هدف البحث عن الذات وتعزيزها وتوكيد حضورها. تقول البطلة في واحدة من قصصي التي عنوانها "اللعبة": "اكتبي بجرأة، على  الكاتبة ألا تختبىء خلف قناع اللغة، اكتبي بلا مواربة وسمِّي الأشياء بأسمائها". ولكن  من الصعوبة بمكان نزع آثار الرقيب الذي يختبىء داخل أعماقي منذ زمن بعيد وموغل في قِدمه؛ فكثيرًا ما يطل برأسه بين الحين والآخر، وهذا ليس ذنبي.. إنه الذاكرة الجمعية التي وُلدنا بها في هذا الشرق ـ الذي يقتل الأحلام، ويحارب الجسد، ويحاسب الحلم ويستوقفه ـ لكنني أتغاضى عن وجوده في كثير من المفاصل، وأحاول الكتابة كما يطيب لي. أما عن الرقيب الخارجي، فهو متواجد دائمًا وفي كل مكان، إنْ لم يكن ضمن العائلة الصغيرة، فهو في كل مكان من الأرض!! وهذا ما يضعني في موقف شائك، حين ينبري أحدهم ويبدأ بمحاسبتي مُحصيًـا أنفاسي قبل أنفاس وحيوات شخوصي القصصية.
* بعد الانتهاء من كتابة قصة ما، هل يراودك شعورٌ بأن شخصيتها ـ التي تلعب دور البطولة ـ تشبهك من زاوية معينة، أو أنكِ تتحركين في الحياة من خلالها؟
ليست هناك قصةٌ أكتبها إلا وبها ما يشبهني، أعني أن أحداثها أصابتني في العمق. ومن الطبيعي، أن هذا الأمر ليس يحولُ دون أنْ تفرض البطلةُ أو البطل مسارة بالرغم مني، أو ليس بالنهاية التي أرغبها، فلا يكون مني سوى الاستجابة لها حتى آخر كلمة  تودُّ الشخصيةُ الرئيسة قولها. 
* صورة الأنثى في معظم قصصك، تظهر في البداية ضحيةً لحدث ما، ولكنها ليست سهلة فيما بعد؛ إذ تبدو على درجة عالية من الرعب، وغالبًـا ما تلجأ لقتل غريمها. هل تعتقدين أن خلفياتٍ ثقافية أو اجتماعية لديك، تجعلك تحركينها في هذا الاتجاه؟
** هل تشبه الكتابة عملية القتل؟ كثيرًا ما يواجهني هذا السؤال، ولكن أمام  الأسلوب الذي انتهجه بالكتابة، وأمام القتل الذي يحدث للبطل أو البطلة، أتساءل: هل تحدث، عوضًا عن ذلك، عمليةُ قتلٍ كاد الكاتب أن يشرع بارتكابها؟ أقتل؟! أجل قتلٌ بدم بارد، مع سبق الإصرار والترصد، ربما، وربما يكون القتل في وجه من وجوهه انتصار للذات عبر قتل الشر المتأصل في أعماقها. لا أعرف، كل ما أعرفه أن في أعماقي حنينًـا يشبه الانشداد الخفي إلى شيء بعيد، كان ذات زمن وفُقد لإسباب غامضة؛ إذ  كثيرًا ما أصحو من نومي، فأراني وأنا أهم بالقتل، وليس هناك نقطة دم واحدة؛ لذا قتلتُ من أحب وخلقت وجوهًا بملامح جديدة وأسماء مختلفة، ورغمًا عني كانت تحمل ملامح من أحببت، فتطالعني في كل مرة أنام فيها ويزداد عذابي. وهكذا، عوضًا عن أن أحمل السلاح وأقتل، أمسكت بالقلم ورحت أنحت ما أشاء، وأخلق شخوصي الجديدة كما يطيب لي لأعود وأقتلهم جميعًا. في مرات عديدة، كانت دمائي تسيل أمامي وتنزف على ورق أبيض، وتمتزج بدماء آخرين قادهم حظهم السيِّئ إليَّ، وشاركوا بوليمتي الليلية من غير ذنب يُذكر.
هناك حضور لافت للجنس في كثير من القصص النسوية بوجه عام، وفي قصصك بوجه خاص، قد يكون نتاجًـا لتك الحرية المطلقة، ولكن كونه لافتًـا، يستدعي أن نسأل: لمَ جميلة عمايرة توظفه في قصصها، بهذه الصورة؟
** لستُ أدري ما إذا كان لافتًـا أو لا، لكن ما أعرفه أنني أستخدم كل ما من شأنه  أن يوضِّح حالة الشخصية التي أكتب عنها، سواء أكانت لرجل أم لامرأة. أما إذا كان لافتًا، فهو بالتأكيد ليس مُقحمًا على النص بأيِّ صورة من الصور، هذا أولاً، وعلى الكاتب أن يكتب بجرأة، ويقتحم المسكوت عنه، ويسمي الأشياء بأسمائها دون خجل أو مواربة أو اختباء خلف اللغة، هذا ثانيًـا، وإنْ لم يفعل ذلك، فأرى أن يصمت، أو  يكرر أنماط الآخرين دون أنْ يترك لنفسه أثرًا أو علامة أو تميُّز.
أخيرًا، ماذا تعني الكتابة القصصية لك؟
* * الكتابة باتت هويتي، وذاتي التي بدونها أفقد توازني. وهي في الأحوال كلها، ليست امتيازًا، بل إنها شأن خاص، قد لا يعني الكثيرين.
______________________
أجرى الحوار: د. إبراهيم أحمد ملحم، صحيفة الرأي (الملحق الثقافي)، 24 تموز 2015.