الخميس، 13 نوفمبر 2014

حوار مع الروائية سميحة خريس

الروائية سميحة خريس ـ من صفحتها على الفيسبوك
تقديم: الروائية سميحة خريس ولدت في عمان 1956، وعملت في مجال الصحافة منذ 1978 في الإمارات والأردن. ومن أعمالها الروائية: رحلتي، والمد، وشجرة الفهود، والقرمية، وخشخاش، ودفاتر الطوفان، والصحن. تُرجمت بعض رواياتها إلى لغات أخرى، وحصلت على عدد من الجوائز، منها: جائزة الدولة التشجيعية في الآداب 1997، وجائزة أبي القاسم الشابي في تونس 2004، وجائزة الإبداع لمؤسسة الفكر العربي في القاهرة 2008. في هذا الحوار تجيب الروائية خريس عن أسئلة ما يزال القارئ والناقد العربي المعاصر في حاجة إلى الحصول عليها من الينابيع نفسها، وليس من الدراسات وحدها.

الجوائز
* حصلتِ على أكثر من جائزة لها ثقل كبير في عالم الإبداع والثقافة، ماذا يعني لك الفوز؟ وهل يختلف شعورك كلما أحرزتِ فوزًا يُضاف إلى السابق؟
** في أكثر من لقاء أشرتُ إلى أن خمسة عشر عامًا مضت وأنا أكتب ولم يُلتفت إلى تجربتي، باستثناء مقال واحد كتبه الأديب (حسني فريز) في جريدة الرأي الأردنية في مطلع الثمانينات، ولم أشعر بتاتًا بثقل هذا التجاهل، أو بحاجة إلى أن يتم الاعتراف بتجربة ما زالت في طور النمو. أنا نفسي كنت أبحث عن هوية أدبية، ولا أكاد أتعرف ملامحها. ربما ما زال هذا الشعور يرافقني كلما أقدمت على عمل جديد، ولكن الذي حدث أن القراء والنقاد تنبهوا إلى التجربة بعد أن نضجت. كان ذلك تحديدًا منذ كتبت (شجرة الفهود)، وقد حظيت بالمتابعة والجدل، ودخلت الساحة الثقافية مستعدة بأدواتي. وبعد كل هذا العمل الذي لم ينتهِ بعد، وجدت التقدير عبر الجوائز. مما لاشك فيه أن اختراق عالم الجوائز يتم بآليات مختلفة، ولكني أشعر بالفرح؛ لأن نصوصي الروائية وجدية المشروع الذي أتعامل معه، كانا السبب وراء حصولي على تلك اللفتات العربية المميزة، سواء أكانت جائزة الشابي أم جائزة الفكر العربي، وقبلهما حصلت على التقدير المحلي حيث مُنحت جائزة الدولة التشجيعية. والواقع أن تلك الجوائز تمثل تقديرًا أعتز به، وهو تقدير لجهدي ولكنه اعتراف بالإنجاز الأدبي. وأظن أن مجمل تلك الجوائز عندما تمنح لتجربة جادة فإنما تُكرَّم من خلالها الجدية والوفاء للفن، وهو ما يتمتع به جيل من كتاب الرواية أقدرهم وأشعر أنني في المركب ذاته معهم. وعندما تكون الجائزة لاسمي شخصيًّـا فإنها تضعني في مواجهة خياراتي، وتكبلني للمضي قدمًا في مشروعي، وتحملني مسؤولية الالتزام بالجد والفن الذي من أجله قيلت لي كلمة تقدير. 

البدايات
* كانت البدايات في 1980، الآن، وبعد مرور أكثر من خمس وعشرين سنة على الكتابة القصصية والروائية، باتت الإجابة عن السؤال: لماذا تكتبين الرواية أمرًا ضروريًّا، وهذا السؤال يُفضي إلى آخر يتصل به: ماذا يعني لك التوقف عن الكتابة؟
** لم أكن أسال نفسي هذا السؤال عندما كتبت منذ سنوات طويلة، ولكثرة ما سألني الصحفيون هذا السؤال بت أفكر فيه.. أعتقد أني كتبت في البداية بصورة عفوية وفطرية، لم أحتجْ إلى الأسباب والمسوّغات المتعلقة بالكتابة، كنت أتنفس وأحيا، وأستمتع وألعب، وأفكر وأحب، وأكره عبر الكتابة.. كل هذا لا يحتاج إلى مسوّغ، ولكن السؤال الحقيقي قد يكون: لماذا أنشر ما أكتب؟ فتكون الإجابة: لأن مسؤولية ضخمة تلقى على عاتق الكاتب لحظة اتخاذه القرار بإشراك سواه في حياته التي تمر عبر الكتابة. كلما كتبت ،الآن، أسأل نفسي: هل ما أكتبه يستحق الكتابة؟ فتتداخل العناصر في أسباب الكتابة والنشر. لم يعد سهلاً التعامل مع النشر، واستسهال الترويج لكتاب دون أن يضع الكاتب نفسه موضع المساءلة. أحيانًا أقول لنفسي: إن الجمال وحده سبب وافٍ لإصدار الفن، وأحيانًا أجد الكثير من الرسائل التي أريد أن تصل، ولكني في الواقع بعد كل هذه الملابسات ما زلت أكتب لأحيا، وفي محاولة لقراءة العالم على هواي، وكما أتمنى وأعتقد، أما التوقف عن الكتابة فهذا أمر مفزع، ماذا يعني؟ هو موت من نوع أليم وخاص.. لا أتمنى أن يحدث لي قبل الموت الفيزيائي.

تجربة الإبداع
* هل تجدين نفسك في الرواية: سميحة خريس التي تستطيع البوح بجرأة، والتي تحمّل الشخصيات شيئًا من عواطفها، ورؤيتها للحياة، ورفضها للجانب السلبي فيها؟
** ربما لا أجد نفسي إلا في الرواية، هنا عالم ينداح عن مدهش وغامض وفاتن.. أنا طرف فيه بكل تأكيد. عندما تعلِّمنا الحياة إعمال كوابحنا الداخلية إزاء الأحداث والمواقف، فإن الرواية تطلق لنا العنان، بإمكاننا عبر كلمة الفن أن نقول كثيرًا من الأشياء بشجاعة. ويمكن لعواطفنا الدفينة، حتى تلك التي لا نعترف بها أو لا نشعر بدورها في حياتنا، أن تنطلق وتعبر وتعيد تشكيل حيوات أشخاص متخيلين هم نتاج عقولنا وخبرتنا، كما أن الكثير من المعاني تظل حبيسة الروح لا يمكن التعبير عنها إلا عبر الفن، وأنا أداتي الأولى في التعبير هي الرواية؛ لهذا تتحول شخوصي إلى ممثلين عني في توضيح كل ما أعرف عن الحياة، وفي تصور الحلم والواقع، الحب والكره، الخير والشر.. على الورق أنشطر إلى آلاف الشخوص التي تعني خلاصي وخلاصهم.
* إذا كان الأمر كذلك، فنحن بحاجة إلى معرفة كيفية تشكل العمل الروائي عندك.
** كل عمل روائي له خصوصية في أثناء تشكله، وفي بداياته. أحيانًا يقودك التفكير للغوص في قضية تتشكل على مهلها إلى رواية، وأحيانًا تضيء الفكرة  مثل ومضة، فتأخذ بتلابيبك إلى أجواء غريبة وأبحاث لم تعتقد يومًا أنك ستعمل عليها. وفي مرات عديدة تشعر أن عواطفك ترزح تحت تأثير فرح أو حزن أو هزة عاطفية، أو منعطف حياتي يقودك لأن تكتب صيرورة الأشياء. إضافة إلى أن الحماس، أحيانًا، يلتقطك للاهتمام بشخصية ما أو عصر معين. إذا جاءت كل هذه المحفزات إليك، واختمرت في وجدانك تُولد الرواية. في مرات عديدة، التقطت اسمًا من أحاديث عابرة فكانت رواية، مثلما حدث حين كتبت رواية (القرمية)، وكما يحدث معي الآن وأنا أكتب مخطوطًا جديدًا باسم (يحيى الكركي). من ريشة تطير في مهب الريح استعيد نسرًا يحلق في الأفق، هذه أمور تتعلق بالروح أولاً، ولكنها إن مضت وحيدة دون بحث وتمحيص ستقع، لا بد للكاتب من رصيد معرفي، وجلد على تتبع حياة شخوصه وفكر الإنسانية، لهذا أعتقد أن الرواية عمل معقد يبتلع كل صنوف الإبداع في جوفه.
* لماذا شحّت في الساحة الثقافية المقالات أو الكتب التي تتحدث عن تلك الكيفية عند الروائي، في الوقت الذي نجدها كثيرة عند الشاعر، كما نرى في حديث صلاح عبد الصبور في كتابه (حياتي في الشعر)، ونزار قباني في كتابه (قصتي مع الشعر)، وغيرهما؟
** كتابة الرواية ليست عملاً عتيقًا، بمعنى أننا نكتب الرواية الحديثة منذ مطلع القرن الماضي، وكلنا نتحسس كيفية كتابة الرواية، وماذا يحدث في هذه الأثناء. في الواقع، هناك كتاب كبار كتبوا عن تجربتهم في الكتابة على مستوى عالمي، أما في العالم العربي، فقد اعتنوا بإضاءة حياة الكاتب أو الدراسات النقدية حول نصوصه، ولم يبحثوا بتلك المرحلة المذهلة المتفجرة التي يعاني فيها متعة وأوجاع الكتابة.

التراث
* ما رؤيتك للتراث، وللحداثة في الشرق والغرب؟ وهل من الضروري أن ينحاز الكاتب إلى أحدهما؟
** أعتقد أننا، إذا ذهبنا إلى معاداة الحداثة والتخندق في جلباب التراث، نموت. ولكننا لن نحيا أيضًا بقطع أوردة التراث عن شراييننا النابضة. هناك قمع غير واقعي ولا منطقي في رسم الحدود بين الجانبين؛ فالحياة تسير بنا مرغمين أو موافقين إلى المستقبل، وذلك التراث شئنا أو أبينا يسري في دمائنا. وعلى الرغم من كوني أحب التطلع إلى الأمام، إلا أن فهم القادم لا يجدي دون قراءة الماضي. الحداثة قدرنا، وإلا نكون قد اخترنا الانزواء، فالموت. ولا تعني الحداثة شلع كل ما هو أصيل وجميل في تجربتنا؛ فالتجربة الإنسانية الحقيقية لن تبنت في فراغ، لا بد من جذور قوية للأغصان الوارفة المثمرة. وفي تقديري أن التخندق بات سلاحًا نقتل به أنفسنا، وليس سوى تعبير عن الخوف، والانهزام، والطفولة غير الناضجة سواء من أولئك الذين يتشبثون بقطار الحياة الذي يمضي نحو الحداثة دون أدوات تعينهم، أو أولئك الذين يرتدون فزعين إلى التراث.

المتلقي
* هل استطاع الناقد العربي المعاصر الذي يتناول الرواية أن ينجح في تمهيد الطريق الصعبة بين الروائي والجمهور؟ وهل أنت راضية عن طبيعة الحراك النقدي حول الرواية؟
** الجمهور يقرأ الروايات، ولكنه لا يقرأ الكتب النقدية، ولهذا أسباب كثيرة، وهذا يعني في النهاية أن النقد ليس سببًا أبدًا في تمهيد الطريق للرواية؛ فالطريق بين الفن وجمهوره معبدة إلا من مطبَّـات قليلة، بينما ما زال أمام النقد كثير من السدود تحول بينه وبين الجمهور؛ لهذا نراه حبيس الكتب الأكاديمية، والمؤتمرات والندوات الثقيلة، بينما الفن الروائي يسرح ويمرح في أيدي جمهوره دون عناء، وهذا طبيعي؛ إذ إن النقد بات علمًا ثقيل التقبل، ويهم المختصين به أساسًا، كما أنه في الترتيب الزمني يأتي بعد إصدار النص الروائي، فليس له دور في التمهيد، بقدر ما هو إضاءة على تقييم العمل داخل مجموعة محدودة من المثقفين والطلبة والأساتذة. وللحق فقد حظيت الرواية دون سائر التجارب الإبداعية في الأصناف الأخرى بإقبال مذهل من النقاد؛ فلها تُقام المؤتمرات وتؤلف الكتب، وتعد رسائل الماجستير والدكتوراه، وتُجترح التسميات، فهي ديوان العرب الحديث، وقد أشبع النقاد الرواية اهتمامًا، لكن مع هذا ما زالوا غير قادرين على مجاراة التدفق المرعب الغريب من فن الرواية التي تنطلق في كل أرجاء الوطن العربي. هناك أعمال كثيرة جيدة لم يتناولها النقاد، وهذا أيضًا أمر طبيعي؛ لأن سوق الإبداع يفيض، وإذا لاحظنا أن سوق النقد أيضًا يفيض، فإنه في الوقت نفسه، لا يجاري الحركة الإبداعية كمًّـا وكيفًا؛ ذلك أن ساحة النقد يختلط بها الأصيل بالقارئ البسيط أو الصحفي أو المتكسب، ولا يبدو هذا أمرًا خطيرًا، فأنا أومن بأن غربال الزمن كفيل بإبقاء التجارب الحقيقة سواء في الإبداع أو في النقد.

الأدب النسوي
* أشرتِ في حوار أجرته معك قناة الجزيرة الفضائية في السادس من نيسان 2004 إلى أن موقفك من (الأدب النسوي) قد تغير، من رؤية الكتابة إنسانية عامة إلى  الكتابة التي تحمل الصفات الأنثوية التي قد يكتبها ذكر.. وذلك من حيث القدرة على الخلق والتوليد والخصب. مضى على هذا القول أكثر من أربع سنوات، هل تغيرت رؤيتك الآن للأدب النسوي مرة أخرى؟
** لعل ذلك اللقاء القديم كان موجزًا وغير واضح في طرحه، ولكن هنا سأفصل وجهة نظري التي ما زلت أرى شواهد كثيرة على صحتها. لن يحدث أبدًا أن كاتبًا سيكتب كتابة خارج نطاق الإنسانية، نحن بشر كلنا نكتب، هذا أمر طبيعي، وعندما ظهرت مقولة الأدب النسائي استُفزت الكاتبات، فمضين يدافعن عن كتابتهن الإنسانية، ويرفضن تعبير الأدب النسوي، وكأنه محاولة للنيل من مستوى كتابتهن. وإذا كان الأمر كذلك، فأنا أوافقهن على رفض المصطلح، ولكني بت ألمح عناصر في ما تكتبه بعض النساء وبعض الرجال، هي بطبيعتها تحمل صفات أنثوية، فلو أضفنا إلى هذه العناصر الكتابة التي تتعلق بقضايا المرأة لقلنا هذه كتابة نسوية، وقد يكون هذا واضحًا، ولكن عندما تغيب قضايا المرأة من أجل قضية عامة، لا شيء يمنع أن تكون الكتابة نسوية ما دامت تحمل خصائص الكتابة الخاصة من حيث اللغة والشكل والدلالة. ولما كان هذا اقتراحي الخاص وأنا لا أدعي كوني ناقدة، فإني أتمنى أن يحاول النقاد البحث في هذا الأمر بالتفصيل.
* يصفك البعض بأنك ذات طاقة إبداعية متميزة، وخيال خصب لا ينفد مخزونه، ما الروافد التي تغذي هذه الطاقة من حيث المضمون الروائي؟
** شكرًا لحسن النية هذه، أتمنى أن استحق هذا الوصف. إن الخيال عتاد الكاتب للاستمرار، ولكني لا أدعي أني أحلق في عوالم متخيلة دون أن اقتلع حجارتي من الواقع الذي يحيط بي. بصراحة الحياة مكتظة إلى حد أننا نسهو عن أكثر التفاصيل. هناك حيوات كثيرة تمر قربنا ولا نراها، وهناك ما هو خفي وغامض لا نجهد أنفسنا في تقصيه وكشفه، وقد علمتني مهنتي الارتطام بمواضيع كثيرة، وعلمني السفر جمال التنوع والتعدد والاختلاف وقيمة كل هذا، وبت حريصة على شخذ حواسي في مواجهة كل حدث أو صورة أو فكرة أو معنى، ليس من باب معارضة العالم والشغب فيه فقط، ولكن في محاولة للانتماء الحقيقي له. ليس حقيقيًّـا القول: إن القراءة تصنع كاتبًا، فهي رافد واحد مما يجب أن يتوافر للمبدع، لكن الحياة أكثر غنى وحراكًا، وأوسع أطيافًا.. وراء كل سد عالم منفتح، ووراء كل ستار خفايا مذهلة، وفي قلب البشاعة جمال خجل، وفي قلب العتمة نور.. ولنا حواسنا التي تعمل على تفكيك العالم وإعادة ربطه من جديد، كل هذا الهائل المذهل من الوجود يرسم معرفتنا، ولكننا في أفضل الأحوال لا نعرف إلا القليل على الرغم من أن كل يوم قادر على إمدادنا بالجديد. 

تأثير العولمة
* في زمن العولمة، يكثر الحديث عن موت الأجناس الأدبية؛ فمرة يُعلن عن موت المسرح، ومرة يُعلن عن موت الشعر، وهناك مَن يُعلن الآن عن موت الرواية.. هل يعتقد هؤلاء أن الناس مغرمون بتسقط أسماء الوفيات، أم أن هناك شيئًا آخر؟
** لا شيء حقيقي وأصيل يموت، هناك تحولات، ربما، ولكن الصنف الأدبي عنيد ومثابر وقادر على التجدد، المهم أن نعي نحن بوصفنا منتجين له كيفية المتغيرات المحيطة بنا، قد تخبو نارُ أحد الفنون في حقبة ما، لأسباب عديدة خارج الفن نفسه أو تتعلق بالمجتمع الذي يتعامل مع هذا الفن، أو بمنتجيه، لكن المخلصين في كل باب يقفون مدافعين عن فنونهم يحاولون إلحاقها بالعصر. أحيانًا يفشل جيل في الحفاظ على توهج فنه، ولكن هذا قطعًا لا يعني النهاية، والحديث حول الموت يظل في اعتقادي مجرد حديث يرصد الزمن الراهن، ولا يتطلع إلى المستقبل.. إنه نوع من التشاؤم الذي يسود الساحة الثقافية، أما الفنون فتقوم أساسًا على المغامرين الذين لا يستسلمون للتشاؤم.
* سأقتبس عبارة من حديثك في حفل التكريم الذي أقامته رابطة الكتاب الأردنيين في 27 أيار 2005، فبعد أن تساءل الروائي (إلياس فركوح) عن الشكل الذي اخترته في رواية (نحن)، قُلت: "لم أهتم بالشكل الروائي، بل قصدت أن تكون نوعية مختلفة عما فعلت في الأعمال السابقة". هل يعني هذا أن الناقد سيجد نفسه أمام طبيعة مختلفة عن الرواية المألوفة الشكل؟
** كل عمل فني له شكله المختلف، أنا أصاب برعب كبير إزاء التكرار، أمزق أوراقًا كثيرة لا تمشي بي خطوة إلى الأمام، وعندما أقول: إني لم أهتم بالشكل فإن ذلك لا يعني أن الشكل جاء تقليديًّـا، ولكني لست مسكونة بالشكل على حساب الفكرة والموضوع، أعرف أن العمل تكامل، والشكل واحد من الأعمدة الرئيسة، ولكني بالمران اكتشفت أن النص يختار شكله، ولي تجارب مع رواياتي التي لم تكن على منوال واحد.

الروائي الناقد
* قرأتُ شهادات إبداعية حول رواياتك منذ (شجرة الفهود) 1997 إلى (نحن) 2008، وتابعتُ أخبارك الثقافية منذ خمس سنوات، وقرأت حواراتك، ومقالاتك المنتظمة في الرأي الثقافي، وجدتُ أن لديك خطابًا نقديًّـا متميّزًا، وهذا نادرًا ما يحدث عند كُتاب الرواية، لماذا تصرين على ظهور شخصية سميحة خريس: الروائية، في حين أنت قادرة على الظهور بشخصية سميحة خريس: الروائية الناقدة، كما هو الحال الأكثر شيوعًا: الشاعر الناقد؟
*أولاً وأخيرًا أنا روائية، لست ناقدة، هذا الأمر ضروري لتصنيف طروحي النقدية؛ ذلك أني أكتب ما أعتقد من وجهة نظر الكاتبة، ولكني لا أمتلك الأدوات العلمية والخلفية النقدية التي تؤهلني لمنصب النقد، وأشعر بالألم لشدة ما يستسهل بعض الصحفيين والكتاب تسمية أنفسهم بالنقاد. النقد يكاد يكون علمًا.. قبل أن نتصدى له يجب أن ندرسه، ثم نشحذ معارفنا في تقصي ملامحه.. وإذا كان كل كاتب في النهاية ناقد نفسه، على الأقل، فهذا لأن الكتابة تمثل وجهة نظر في الحياة، والنقد ليس تلخيصًا أو إعادة سرد بقدر ما هو وجهة نظر في النص. يمكن أن نرى الكتاب نقادًا من هذه الزاوية فقط، أما النقد الأدبي تحديدًا فلنترك الخبز لخبازه، ولنا المدى كله في الإبداع الأدبي، ولنا من النقد ما نسمع ونقرأ ونعرف، وما يزيدنا إدراكـًا بخفايا الكتابة، ولكني حقًّـا لست مهووسة بتقديم نفسي ناقدةً. وأعرف أن هناك زملاء مبدعين: شعراء وروائيين، أتقنوا حرفة النقد، وأنا واقعة في هوى حرفة الرواية فحسب.

الجمهور

* في أخبارك الثقافية، قرأتِ شهادات إبداعية في منتديات نسائية، وفي جامعات حكومية وخاصة، وفي مسارح بلديات المحافظات، وفي مدارس طلبة.. وفي كل مرة كنت تجدين الجمهور الكبير الذي ينتظر الاستماع إليك، ويتواصل معك، وفي المقابل هناك شكوى كبيرة من الشعراء بسبب ضعف الإقبال على حضور أمسياتهم. هل يمكن أن تفسري لنا ذلك؟
** يمكن أن أقول: توفيق من الله، ولكن دعني أفسر غياب الجمهور عن الأمسيات الثقافية، هناك سوء تنظيم، وهناك تشظي فعاليات وارتباك كبير، ولا توجد فسحة لدى المواطن للمشاركة بما يظنه رفاهية المثقفين. عن نفسي أحاول أن أتفادى سوء التنظيم، أحاول أن أرتبط بالناس، وبعد كل هذا يصير لدى البعض قبول عام لا بأس به، وهذا ما يجعل إقبال الجمهور للاستماع إلى شهادة إبداعية أو محاضرة، أو لتوقيع كتاب، أو لمتابعة ندوة.. هو تحصيل حاصل.

المكان
* المكان في الأردن يحضر في رواياتك، والترجمة التي حظيت بها رواياتك تدل على أن المحلية لا تقف عائقًا في وجه العالمية، ما القضايا التي ما زلت تعتقدين أنك بحاجة إلى التعبير عنها في رواياتك القادمة؟
** الحياة حافلة بالقضايا التي تشاركني سريري، في الواقع، المحلية لم تكن هاجسي في أي كتابة، بل قضايا الإنسان، وبالصدفة أنا من هنا، من تلك البقعة التي أعرف عنها أكثر من سواها، أفهمهما أو أحاول؛ لهذا أنطق عنها وبها، فاتحة المدى كله لتطبيق إنساني على النص. فأنْ يقرأ الإسباني رواية تدور في عمان في مطلع القرن الماضي مثلما أقرأ أنا رواية تدور أحداثها في كولومبيا، شديدة الخصوصية ولكنها شديدة الحساسية أيضًا تجاه الإنسانية جمعاء. وفي وقتنا الحالي، تتعقد الحياة، وتتشابك مقولات الحرية، وادعاءات الديمقراطية، وأساليب الاستبداد والقهر، كما تنكشف الخفايا عن وحشية الإنسان.. هذا هو همّي الحالي الذي أعالجه في نصين مفارقين: أحدهما رواية نفسية، والآخر نص روائي تاريخي.
* قارئ رواياتك، يشعر أنك تسلطين الضوء في كثير من الأحيان على تحولات الزمن، وفي روايتك الأخيرة (نحن) بدا ما تسلطين عليه الضوء شيئًا محوريًّـا في بناء الرواية، إلامَ تردين ذلك؟
** الزمن هو العنصر المخيف الذي يأكل أعمارنا على مهل، ودون إحساس منا. وهو زمن خاطف سريع، ولكننا نعيشه بتروٍّ كبير، نشيّد عالمًا صلبًا في هنيهة عابرة. بعض أعمالي تسير الهوينى مع الزمن التفصيلي، تاركة أمر انقضاء العمر للمتخيل، ولكن في رواية (نحن) حاولت الإمساك بالثانية الأخيرة من الرحلة المرعبة، أفردتها في صفحات قليلة.. علي أن أحاول فهم ما يحدث فيها، أتعالق مع الزمن والمكان كثيرًا، وأعرف أن غرور المرء يوهمه أنه أبقى من هذين العنصرين، ولكني أراهما يقهقهان.

توظيف التاريخ
* توظفين في بعض رواياتك التاريخ، كما نجد في (القرمية)، إلى أي مدى يمكن أن يدخل التاريخ في الرواية، ويُبقي على قيمتها الفنية؟
** ظاهرة كتابة التاريخ راجت في أعمالي، وأعمال كتاب أردنيين، وآخرين عرب. أظن أن الشعوب في فترات التغيرات الكبيرة الانقلابية التي تشهدها، تلتفت إلى الوراء بحثًا عن الجذر والمعنى الأساسي الذي يمكنها من فهم ما يحدث، وربما هو ما تبقى من خشبة الماضي نتشبث بها في بحار العولمة العاتية، ولكني لا أنظر إلى التاريخ خطرًا على الفن. بإمكان التاريخ أن يعود بصوت جديد حداثي، وقراءة واعية تتطلع حتى إلى مستقبلنا، وليس من خطر على القيمة الفنية لأي نص من قبل التاريخ أو حتى العلوم التقنية، بل إن الخطر يأتي دائمًا من المبدع الذي لا يجيد اللعب بأدواته، والذي لم يتمرن بصورة كافية على مزج معادلة دقيقة بجرعات صحيحة تحقق المعرفة والمتعة، وتأتي بكل الفنون والمعارف في سلة واحدة.

توظيف الجنس
* توظفين في بعض رواياتك الجنس، كما نجد في روايتك (نارة: إمبراطورية من ورق)، ماذا يعني لك الجنس في الرواية؟ وهل تشعرين في بعض الأحيان أنك تبحرين عكس التيار؟
** لا أظن أن هناك تيارًا متصلاً بالحياة يندفع داخل الإنسان أقوى مما يفعل الجنس، ربما في بعض الحالات هو العنصر الأول الذي يبني ويهدم، فلماذا نظن أن توظيف الجنس في الرواية سباحة عكس التيار؟! الجنس عنصر أساسي في تشكيل الحياة، وما دامت الرواية توازي الحياة، وتعيد قراءاتها لا بد من الجنس، ولكن كيف؟ هذا هو السؤال، لا أميل إلى الجنس الفضائحي الذي يُزج في النص من باب الاستعراض أو العبث، إذا لم يكن يؤدي المشهد ضرورة ما فإني أحذفه، والرواية ليست فيلم (بورنو) يجري فيه صدم الذائقة.. قد أصدم الوعي، ولكني عند تناول ثيمة الجنس تحديدًا حريصةٌ على معادلة جوهرية: المتعة والجمال والرسالة.

المستقبل
* أخيرًا، الروائية سميحة خريس.. ما وضع الرواية العربية في حركتنا الثقافية الراهنة، وهل أنت مطمئنة على مستقبلها في زمن العولمة؟
** الرواية بألف خير، مدللة، ومتسيّدة، وحاصلة على الاهتمام الجماهيري والنقدي.. ولكن الروائيين ليسوا بخير تمامًا؛ إذ ترهقهم إخفاقات عامة وشخصية، كما يتزاحم معهم في المكان ذاته مدَّعو كتابة الرواية. وتختلط نتاجاتهم الجيدة بكم هائل من الغث الذي تُغرق المطابعُ به الأسواق، وبضجيج عالٍ من النقاد الباحثين عن بدايات هذا الفن، والذين يحارون في إلباسه ثوب الغرب، أو إرغامه على وضع شال تراثي، وبأولئك المهتمين بجنس الكاتب أكثر من جنس النص.. هي فوضى لذيذة للكاتب إذا أجاد التعامل معها دون نزق، أو انفعال جارف؛ ففي الحياة الكثير مما يستحق طاقته، أولها الكتابة، وثانيها وثالثها وأخيرها الكتابة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أجرى حوار: د. إبراهيم أحمد ملحم، صحيفـة الرأي (الثقافـي)، عمان، 2 كانون الثاني 2009.