الأحد، 27 سبتمبر 2015

ثقافة الطفل في عصر الوسائط المتعددة


إضاءات أولية

انقضى الزمن الذي كان الطفل في الإمارات العربية المتحدة ينتظر فيه الفترة المخصصة لبرامج الأطفال على البث الأرضي؛ إذ بات الفضاء مفتوحًـا أمامه بسبب تقدم التكنولوجيا المعاصرة، وزيادة الوعي بضرورة وجود قنوات متخصصة. ولم يعد الإنترنت يعيش في جزيرة معزولة عن البث الفضائي؛ فهناك فضائيات متخصصة بالطفل تبث عبر مواقعها على الإنترنت، إضافة إلى وجود حلقات وبرامج مخصصة للأطفال يتم تخزينها على مواقع الفيديو بحيث تبدو مشكلة فوات الأوان لمشاهدة حلقة ما ليس صعبًا. وهذا كله، وضع تحديات جسيمة أمام الثقافة، فكُتبت دراسات عن تأثير أفلام الكرتون والإعلانات التي تتخللها في الطفل العربي بعامة، وفي الطفل الإماراتي بخاصة. وسنحاول في هذا الفصل الربط بين التراث والوسائط من زوايا مختلفة.

الانفجار المعرفي:

تقدمت سرعة الوصول إلى الإنترنت بشكل مذهل، وكذلك انتقال النشر على صفحاته من 1.0، وهو نظام البرمجة الرقمي الذي يحتاج إلى مبرمج مختص بتقنية المعلومات، إلى 1.5 الذي أتاح لمشرفي المواقع نشر ما يكتبه الآخرون متحررين من صرامة لغات البرمجة، إلى 2.0 الذي منح الحرية الكاملة للقراء الذين يملكون اسم المستخدم Username، وكلمة السر Password للنشر مباشرة، وهو ما يبدو على صفحات المنتديات، والصفحات الشخصية المجانية، وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي بأنماطها المختلفة: الشخصية، والعامة، والمجموعات المفتوحة والمغلقة. لقد بات الطفل في سياق انفجار معرفي، يستطيع من خلاله الوصول إلى المعلومات التي يتطلبها في حياته اليومية أو في حياته الدراسية، وهو ما همَّش الوسائل التي كانت تتربع على عرش ثقافتـه كالمكتبة الورقية في المدرسة، وأظهر الحاجة للمكتبة التفاعلية.
رافق هذا الانفجار المعرفي تقدُّم مذهل في تصنيع الأجهزة التكنولوجية نفسها؛ فقد انتقل مستوى الوضوح في الصورة إلى عالية الوضوح (HD)، ثم إلى ثلاثية الأبعاد (3D)، وانعكس ذلك على تقديم المعرفة بأساليب جذابة: خطوط متحركة، وإضاءات مثيرة، وتنظيم للمعلومات مزودة بالصور الداعمة لها، إضافة إلى التقنية العالية في الصوت حين مشاهدة الأفلام الوثائقية أو التعليمية المرتبطة بها. وصار الولوج إلى هذه المعرفة، واستثمارها في أثناء الحاجة اللحظية لها، متاحًـا بسهولة، وشائقًـا للغاية، من خلال الهواتف النقالة الذكية، والحواسيب اللوحية.
وهذا ما حفز المؤسسات التعليمية إلى تطوير أساليب تقديم المعرفة؛ لتناسب الثقافة التي يعيشها الطفل في الحياة اليومية، فأنشأت البوابات التعليمية كي يستطيع الطفل تحميل كتبه الإلكترونية أو التفاعلية، وجعلت الحاسوب اللوحي مصدر التعلم حيث يتنقَّل الطالب من كتاب إلى آخر عبر حاسوبه، ويتصل بالإنترنت للبحث عن المعلومات التي تُطلب منه. وهكذا، لم تعد العجائبية التراثية نقيضة للحاضر، بل مبشرة بإمكان تحققها. لقد تخلَّصت هذه المؤسسات التعليمية من مشكلات تقليدية كثيرة، واستطاعت أن تخاطب عقل الطفل بالأسس السليمة التي تجعله يعيش في سياقات عصره، وليس التعليم استثناءً منها؛ لأنه أخطر ثقافة تغذي العقل، وتؤسس مستقبله رجلاً قادرًا على البناء والتطوير في شتى مناحي الحياة. 
ثورة الاتصالات:

أتاحت ثورة الاتصال للطفل أن يتعرف الآخرين، ويقيم معهم صداقات افتراضية، ليس عبر مواقع التواصل الاجتماعي فحسب، بل عن طريق المحادثات النصية، والمحادثات الصوتية، والمحادثات بالصوت والصورة (الفيديو)، إضافة إلى ما صار مألوفًـا، مثل: البريد الإلكتروني، والرسائل النصية القصيرة عبر الهواتف المتحركة. ومعنى هذا، أن العالم بوصفه قرية صغيرة، لم يعد حكرًا على الكبار، بل أصبح الأطفال شركاء فاعلين بهذه القرية. إن الحرية التي أتاحها الكبار للأطفال حرية مسؤولة تربَّى عليها كل واحد فيهم، وعرف حدودها من خلال المجالس التي كان يحضرها معهم، والتي كانت تعده رجلاً مسؤولاً عن تصرفاته في المستقبل. ولهذا، فإن القرية الصغيرة لم تغير شيئًـا نحو السلبية؛ فسكانها امتداد للتعارف بكل مَنْ يمر بها، والعجائبية التي تزداد يومًـا بعد يوم، بفعل التطور في تقنية الاتصال والتواصل، ليست سوى امتداد للعجائبية السردية التي كانت الأنثى تهيء الطفل لها، وتؤهله للتعامل معها بذكاء.
وعلى الرغم من ذلك، فإن المتابعة الأسرية للأطفال تظل حاضرةً؛ لأن ثورة الاتصال قد تعرض الطفل لأذى الآخرين، فيلتقط أفكارًا تشوش مجرى تفكيره، أو ينغمس في هذا العالم الافتراضي الجاذب فيضيع وقته على أمور لا طائل منها. إن متابعة الأسرة، ينبغي أن تنصبَّ على هدف رئيس، وهو تعزيز قدرة الطفل على التمييز والاختيار من منطلق أننا لا نعيش في عالم نقي، وميولنا ليست كافية للحكم على مدى صلاحية ما يأتينا من معلومات وقيم الآخرين.
وهنا، تبدو ثورة الاتصال عند الطفل مُيسِّرة للحياة، وضرورة من ضرورياتها، وإذا أثرت سلبًـا في البعض، فليس العيب فيها، بل في سوء استخدامها من قبل الآخرين، وفي الانجرار وراء أخطائهم دون تمييز الصواب من الخطأ، ودون اختيار ما يناسب الثوابت التي بُنيت عليها ثقافتنا. والمؤشرات جميعها، تؤكد أن الطفل ـ في المرحلة التي تمكنه من استخدام تقنيات التواصل مع الآخرين بالوسائل السابقة ـ استطاع أن يستغل مخزونه من الحكايات الشعبية والأساطير في الحذر من مغبة التورط بالسلبيات السابقة عن طريق التفكير المنطقي بعواقب أيِّ عمل يُقدم عليه؛ لكون هذه السلبيات تخالف ثقافته الأولى بخاصة، والتي بذرتها الأنثى الساردة في نفسه، وحفرت مكانها الثابت فيها.
الإنتاج الفضائي

تراجعت أهمية البرامج الإذاعية المخصصة للأطفال في ظل مزاحمة القنوات الفضائية المخصصة لهم، والتي تنوعت في جمهورها المُستهدف؛ إذ هناك قنوات للأطفال في مرحلة الحضانة تلبي رغبته في الاستكشاف، والإثارة، وتقليل عدد الكلمات لصالح الشكل والحركة والصوت. وهناك قنوات للأطفال في مرحلة الطفولة المبكرة التي تسبق التحاقه بالمدرسة تلبي رغبته في ترجمة الأفعال إلى كلمات، ومعالجة الأفعال بطريقة منطقية، تجعله قادرًا على استيعاب ما يجري حوله في عالم الكبار. وهناك قنوات للأطفال في المرحلة المتوسطة، والتي تصل إلى سنِّ الثامنة، تلبي شغف الطفل بتشكيل الثقافة من خلال المعلومات التي تُقدَّم بطريقة تختلط فيها الحقيقة بالخيال، وذلك من منظور أنه صار قادرًا على تمييزهما، وأن العجائبية باتت مصدرًا من مصادر الاستمتاع، وهنا، تكثر البرامج التي تتناول المغامرات في الأدغال، والاحتكاك بالكائنات الفضائية. وهناك قنوات للأطفال في مرحلة الطفولة المتأخرة التي تمتد من التاسعة حتى الثانية عشرة، وفيها يبدأ المحتوى يميل إلى تعليل حدوث الظواهر، وتوجيه الحلول توجيهًـا منطقيًّـا، وترتبط العجائبية بمنظومة القيم الموجودة في المجتمع بما في ذلك المحتوى العاطفي منها. وهناك قنوات تُنتج محتواها للأطفال بعد سنِّ الثانية عشرة، وتعنى بالمشكلات التي تواجه الشباب، ومخاطر الاندفاع في المغامرات، وربط المحتوى بأهداف سامية لا تنعكس على الفرد وحده بل على المجتمع أيضًـا. وتنوعت هذه القنوات في المضمون الذي تعالجه؛ فهناك قنوات تعتمد على الرسوم المتحركة، وهناك أخرى تعتمد على الأشكال التي تضارع الحقيقة، وهناك قنوات تعتمد على الأناشيد، إضافة إلى قنوات متنوعة في مضمونها. وتنوعت أخيرًا في لهجاتها المحلية، وإنْ كانت اللغة العربية الفصيحة هي السمة الغالبة عليها.
هناك رسوم متحركة استُخدمت فيها اللهجة الإماراتية، اتخذت "الفريج" عنوانًـا لها، أنتجتها مؤسسة دبي للإعلام، وتعود الفكرة والإخراج إلى محمد سعيد حارب الذي أنهى تعليمه المتخصص في الفنون العامة وفنون التحريك في جامعة نورث إيسترن في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2001. وعُرضت الحلقات في مواسم متعددة منذ عام 2006، ويتألف كل موسم من ثلاثين حلقة، استخدمت فيها تقنية الصورة 3D لأول مرة في الشرق الأوسط. تدور أحداثها في حيٍّ شعبي وسط مدينة "دبي" العصرية، وأبطال كل حكاية أربع مواطنات متقدمات في العمر "عياييز"، وهن: أم سعيد، أم سلوم، أم علاوي، وأم خماس. يحاولن عيش حياة هادئة وساكنة في خضم صخب حياة المدينة التي لا تنفك تتطور بسرعة فائقة، ولكن هذا التطور يكشف عن قضية اجتماعية جديدة كل يوم، فيحاولن التغلب عليها بطريقتهن الكوميدية الخاصة؛ فأصعب قضية بإمكانهن حلَّها إذا اجتمعن لاحتساء فنجان قهوة عربية في منزل أم سعيد. وفي المحاورات جميعها، يبدو التراث بمختلف قنواته حاضرًا وحيًّـا، وأن اللهجة نفسها كانت جزءًا من هذا التراث.
إن النجاح الملحوظ الذي حققته "فريج" على مستوى الدولة والوطن العربي، يؤكد أن التراث يكون ذا جاذبية كبرى في عصر العولمة حينما يُقدم بتقنيات معاصرة، وأداء متقن من قبل الممثلين والممثلات، فتحمل كلُّ حلقة من الحلقات رسالةً تريد إيصالها للطفل ومَنْ يشاركه المشاهدة، فتنمي الدهشة لديه، وتثير التشويق لحلقات أخرى، وهذا ما أدى لاستمرار عرضه لسنوات متواصلة، حافظ خلالها على ارتفاع نسبة المشاهدة. وهنا، سؤال باتت الإجابة عنه مطلوبة بقوة: هل يمكن أن يصل إلى هذه النسبة لو عُرض باللغة العربية الفصيحة؟ والإجابة تميل إلى النفي أكثر مما تميل إلى الموافقة؛ لأن الخصوصية في الحياة اليومية التي يدور حولها المحتوى، والتي بدت في التراث المادي ممثلاً في البناء التقليدي، والزي، والأدوات البسيطة، والأثاث.. وفي التراث المعنوي ممثلاً في التعبير عن العادات، والتقاليد، والقيم السامية، والأمثال الشعبية.. تتطلَّب هذه اللهجة، ولا نجدها مُقحمة على طبيعة النص، ولا على الأداء الصوتي للممثلين. ولكن الأمر يختلف تمامًـا حين نشاهد حلقات مدبلجة من إنتاج دول أجنبية تغيب عنها هذه الخصوصية، وتكون باللهجة المحكية لدولة عربية معينة، عندئذ، يتساءل المرء: لماذا جاءت هذه الحلقات بهذه اللهجة؟ هل المحتوى يعالج قضية اجتماعية في مجتمع تلك الدولة؟ فلا يجد إجابة تمتلك أدنى معايير الإقناع.
وهناك رسوم متحركة أخرى، استخدمت فيها اللهجة الإماراتية، أيضًـا، موجَّهة للأطفال من السنة الخامسة إلى الثانية عشرة، اتخذت من اسم "منصور" عنوانًـا لها، وقد بدأ بث الموسم الأول للمسلسل في يناير 2013. وتركز حلقات المسلسل على أهمية اللغة العربية والتعليم والنمط الصحي للحياة. ومنصور هو فتى إماراتي في العاشرة من عمره يعيش في مدينة أبوظبي، ويتعلم من دروس الحياة من خلال مغامراته المثيرة مع أصدقائه وأفراد عائلته. وصاحب فكرة هذا المسلسل هو راشد الهرمودي الذي أكد أن أهداف المسلسل تكمن في تعريف الأطفال وإعدادهم لتفهم القطاعات التي تتطلب تكنولوجيا حديثة، وأساليب حياة متقدمة، وفي الوقت نفسه، إيصال القيم الإماراتية الأصيلة. وبالإضافة إلى منصور (الشخصية الرئيسة)، يشارك البطلَ الصغير في مغامراته أفرادُ عائلته وأصدقاؤه، وهم:
خالد: والد منصور، يعمل طيَّارًا، ويُعد المثل الأعلى للبطل الشاب. شهد التحولات التي مرَّت بها دولة الإمارات العربية المتحدة في العقود الماضية، ولديه العديد من القصص المثيرة عن ماضيه.
مريم: والدة منصور، والمنارة الهادية له في حياته، وهي تؤمن بأهمية الدور الملقى على عاتق المرأة في بناء مستقبل البلاد.
سارة: شقيقة منصور الصغرى، في السابعة من عمرها، كثيرة الكلام، ولديها ببغاء يتكلم أكثر منها.
صقر: جد منصور، كان غوَّاصًـا للبحث عن اللؤلؤ سابقًـا، يجسِّد التمسك بالتراث الإماراتي الأصيل، والشخصية البطولية بكل قيمها السامية، ويُعدُّ ركنًـا أساسيًّـا في حياة منصور، يحرص دائمًـا على ارتباط البطل بأرض الواقع، ويشجعه باستمرار على تعلُّم المزيد.
ناصر: الأخ الأكبر لمنصور، يدرس إدارة الأعمال في الجامعة، ويقدم لمنصور التوجيه والدعم على الرغم من اختلافه معه أحيانًـا.
عبيد وسالم: صديقان مقربان لمنصور، يرافقانه في مغامراته.
نانو: روبوت اخترعه منصور، وهو عبارة عن موسوعة متنقلة، ومحرك بحث بقدرات عالية، يظهر في الأوقات التي يحتاجه فيها منصور بوصفه منقذًا له، وشريكًـا له في مغامراته.
ولجعل شخصية "منصور" جزءًا من حياة الطفل، نجده يشارك في فعاليات وأنشطة مختلفة، تؤكد وجوده في حياة الطقل اليومية؛ فقد شارك "منصور" في افتتاح بطولة مبادلة الدولية للتنس، والتي أقيمت في مدينة زايد الرياضية خلال الفترة من 27 ـ 29 ديسمبر 2012، وشارك على هامشها الأطفالَ في أنشطتهم الترفيهية. ودعا أصدقاءه الأطفال على صفحته في "الفيسبوك" إلى لقائه في مدينة الطفل بحديقة الخور في دبي، وذلك بمناسبة النصف من شعبان (حق الليلة) في 1 يونيو 2015. وأُنشئ موقع متخصص بمنصور على الإنترنت، يتضمن واجهة رئيسة لمدينة أبوظبي، وتبدو خلال الواجهة الشخصيات السابقة ثابتـة، والنقر على كل واحدة منها يُظهر تعريفًـا بها، إضافة إلى شواخص كُتب عليها العناوين الآتية: بيت منصور، الورشة، القصة، فعاليات، المدرسة، الصور، والأفلام، والنقر على كل واحدة منها، يقدم معلومات، أو صورًا، أو حلقات من المسلسل. إن المحتوى الذي تمتزج فيه الأصالة التراثية عن طريق الشخصيات، وأحاديثها، وقيمها.. تؤكد أن التكنولوجيا لم تنل سلبيًّـا من ثقافة الطفل في مجتمع الإمارت برغم التغيرات المتسارعة حوله؛ فالثوابت تردُّ المرء إلى جادة الصواب بحيث تبقى الحياة جديرة بالعيش، ويبقى الإنسان الذي يستحق التقدير هو مَنْ يسير في ركب البطولة: يعيش المتغيرات دون أن يتنازل عن الثوابت.
إضاءات ختامية

إن التراث بقنواته المختلفة، أسهم في توجيه سلوك الطفل توجيهًـا سليمًـا في وسط الانفجار المعرفي، وثورة الاتصال، والقنوات الفضائية. وهنا، تنبغي الإشارة إلى ما ورد في الباب الأول، وهو قدرة الأساطير والحكايات العجائبية على ترسيخ فكرة عدم الانخداع بالمظاهر البراقة؛ لكونها عادة ما تضمر التفرقة والشر والهلاك، وعلى ضرورة توخي الحرص والحذر حتى في الأوقات التي تبدو فيها الأحوال على ما يرام، ما حصَّن الشباب من الوقوع في براثن الاتجاهات السلبية للعولمة، ومن الوقوع في شراك الأفكار المضللة والأيديولوجيات التي يروِّج لها غير الأسوياء في أماكن كثيرة من العالم. إضافة إلى قدرة المجالس التي كان يحضرها الطفل على غرس الإحساس بالمسؤولية وتعزيز ثقافة الحوار، وعلى الإيمان بالعمل التعاوني المشترك في التخطيط والتنفيذ. استطاعت هذه الأمور، وغيرها، أن تجعل الآثار السلبية التي يحذر منها التربويون الطفلَ من مغبة مشاهدة القنوات الفضائية العالمية، بما فيها تلك الموجهة للطفل في مراحل نموه المختلفة والتي تتضمن مشاهد عنف أو مشاهد تتنافى مع قيمه السامية.. غير مؤثرة في ثقافة الطفل؛ لأن التراث، بوصفه حياة متنامية تحتضنها شخصية الطفل في جنبات بنيتها الثقافية، جعل كل شخصية شريرة أو فكرة سيئـة شبيهة بتلك الشخصيات الشريرة في الحكايات العجائبية.
وعلى الرغم من كثرة القنوات التي باتت تشكِّل مصدرًا من مصادر ثقافة الطفل، وتنوعها من حيث جمهورها ومحتواها، وعلى الرغم من أثرها الفعال في تنمية العربية الفصيحة، فإن الدبلجة عرضت قيمًـا تخص المجتمعات التي أنتجتها، منها: الصراع الذي ينتهي بغلبة الأكثر ذكاءً على الأقل ذكاءً، وليس بغلبة الخير على الشر. وإن اللهجات المحلية التي ظهرت في حلقات مدبلجة تُعدُّ خطأ فنيًّـا؛ لأنها لا تمتلك خصوصية كافية لظهورها بهذه اللهجات.
ومع ذلك، فإن المقارنة بين حلقات أُنتجت عربيًّـا وأخرى أجنبية مدبلجة، توصلنا إلى أن أكثر الأسباب المؤدية لتدني نسبة مشاهدة العربية، هو نجاح الدبلجة للأجنبية، وضعف إنتاج العربيـة التي غالبًـا ما تُستقى من التراث في مصادره الورقية، وهذا ما يؤدي إلى كونها غير جاذبة، ومن ثم الانصراف عنها. وتغيُّر هذه النسبة يتطلب توافر التقنيات العالية فيما يُنتج عربيًّـا، وهنا، يمكن الإفادة من تجربة "الفريج" التي أثبتت نجاحها، وتجربة "منصور" التي أكدت أن التكنولوجيا المتقدمة لا يمكن أن تمس جوهر الإنسان ما دامت قيم البطولة السامية حيَّـة في داخله.
إن التنوع المُقدَّم إلى الطفل عبر الفضائيات العالمية قد جعل ثقافته أمام سيل من الأفكار والمعلومات والقيم، وبخاصة تلك المدبلجة التي تظهر كأنها عربية، وهو ما فرض تحديات جسيمة. وقد أدركت دولة الإمارات العربية المتحدة حجم هذه التحديات، فعملت على بث البرامج المخصصة للأطفال في قنواتها بعد دراستها بتمعُّن، وسعت إلى تأسيس قناة متخصصة أطلقت عليها تسمية "ماجد" ترسِّخ القيم الأصيلة، وتنمي الثقافة البناءة، وذلك من منطلق أن القناة المحلية تحظى دائمًـا بثقة وتوجيه الأسرة الإماراتية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ

مقتطفات من كتابي: ثقافة الطفل من الأدب الشعبي إلى الوسائط المتعددة، عالم الكتب الحديث ، الأردن 2016.